مذكرات هيلارى كلينتون عن «ثورة يناير»


قلت لـ«أوباما» إن أمامنا 25 عاماً قبل أن تستقر الأوضاع فى مصر

هيلارى كلينتون
هيلارى كلينتون

هى السيدة الأولى سابقاً، وقد تكون أول رئيسة لأمريكا مستقبلاً. وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة فى عهد الرئيس «باراك أوباما» فى واحدة من أكثر فترات التاريخ اشتعالاً. فترة ثورات «الربيع العربى» التى كانت تحظى فى بدايتها بدعم واشنطن، قبل أن يصفها «أوباما» نفسه بـ«الاضطرابات» التى أدت إلى فوضى لم يكن يتخيلها أحد. «هيلارى كلينتون» نشرت مذكراتها. صدرت أمس الأول فى كتاب فى الولايات المتحدة تحت عنوان «خيارات صعبة»، حاولت فيه الوزيرة السابقة أن تنقل شهادتها حول ما جرى على أرض مصر فى فترة توليها وزارة الخارجية. «هيلارى» كانت شاهدة على ثورة يناير، وعلى سقوط حكم مبارك، وعلى ارتباك وتخبط شباب الثورة، ودقة تخطيط صعود الإخوان للحكم. تقول «هيلارى» إنها كانت شاهدة، بينما يقول البعض إن أمريكا كلها كانت «شريكاً» فيما يحدث فى مصر، وهى التهمة التى تنفيها «هيلارى» بإلحاح فى مذكراتها، تماماً كما تنفى أى صلة لها لاحقاً بصعود جماعة الإخوان. تنشر «الوطن» فصولاً من شهادة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة عن الفترة التى انقلب فيها تاريخ مصر. بكل الرتوش التجميلية التى أضافتها «هيلارى» على صورتها، وكل حنكتها السياسية التى تعرف ما الذى تريد تمريره بالضبط لقارئها، مراهنةً على ذكائه أو حتى على غبائه أحياناً. فى النهاية، هذا هو تاريخ مصر من وجهة نظر «هيلارى كلينتون»، وللقارئ الذى عاش بنفسه هذا التاريخ، القدرة على الحكم عليه.

تقول هيلارى كلينتون فى مذكراتها عن بداية ثورة يناير: «بدأت الاحتجاجات فى ميدان التحرير تتزايد وصارت تركز على هدف واحد: إزاحة مبارك من الحكم».
«لقد عرفت مبارك وزوجته سوزان لما يقرب من 20 عاماً، كان ضابطاً بالقوات الجوية المصرية، تدرج فى المناصب العسكرية حتى وصل إلى منصب نائب الرئيس تحت حكم السادات، وتعرض للإصابة يوم اغتيال الرئيس الذى قاد الحرب ضد إسرائيل ووقع معاهدة السلام معها.. نجا مبارك من حادث اغتيال السادات وأصبح رئيساً بعدها، ليشن حملة عنيفة على الإسلاميين. والواقع أن حسنى مبارك قد حكم مصر كفرعون صاحب سلطات مطلقة لما يقرب من ثلاثين عاماً.
وتواصل: على مدى سنوات طويلة، أتيح لى أن أقضى وقتاً مع مبارك. شعرت بالتقدير لدعمه الدائم لمعاهدة السلام مع إسرائيل، وكذلك لحل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية جنباً إلى جنب، بل إنه قد بذل جهداً يفوق الجهد الذى بذله أى قائد عربى لإقناع ياسر عرفات بقبول اتفاق السلام الذى كان زوجى «بيل كلينتون» يقود المفاوضات فيه عام 2000. لكن، وعلى الرغم من شراكته مع الولايات المتحدة الأمريكية حول العديد من القضايا الاستراتيجية الرئيسية، كان من المخيب للآمال أن نظامه رفض حصول الناس على العديد من حرياتهم الأساسية على مدى 30 عاماً، إضافة إلى سوء إدارته للاقتصاد، إلى درجة أن مصر التى كانت تعرف فيما مضى بأنها «سلة غلال» العالم القديم، قد تحولت تحت حكم مبارك إلى دولة تصارع من أجل إطعام شعبها، وصارت أكبر مستورد للقمح فى العالم كله.
وتابعت: وفى مايو 2009، توفى حفيد مبارك الأكبر عن عمر لا يزيد على 12 عاماً، توفى فجأة بسبب مشكلة صحية. وبدا أن تلك الصدمة قد حطمت الرئيس المسن. وعندما اتصلت بسوزان مبارك لأقدم لها تعازىّ، قالت لى: «هذا الصبى كان أفضل صديق للرئيس».
«أبوالغيط» كان يحذر من حكم الإسلاميين وقال لى: «أريد أن أرى حفيدتى مثلك لا أن ترتدى النقاب»
وتقول هيلارى: بالنسبة لإدارة أوباما، كانت الاحتجاجات التى اندلعت فى يناير 2011 تمثل موقفاً حساساً. لقد كان مبارك حليفاً استراتيجياً لواشنطن لعقود، فى الوقت الذى كانت فيه القيم الأمريكية تقف فى الجانب نفسه الذى تقف فيه مطالب الشباب الذين يطالبون بالعيش والحرية والكرامة. وعندما سألنى أحد الصحفيين عن الاحتجاجات فى أول يوم من اندلاعها، فكرت أن أقدم له إجابة محسوبة تعكس مصالحنا وقيمنا، وتعكس فى الوقت نفسه عدم وضوح الموقف بالنسبة لنا، حتى لا نصب مزيداً من الزيت على النار. قلت: «إننا نؤيد الحريات الأساسية فى التعبير عن الرأى للجميع، ونطالب كل الأطراف بأن تتحلى بضبط النفس وتمتنع عن اللجوء للعنف. لكن تقديرنا أن الحكومة المصرية مستقرة، وتبحث عن طرق للاستجابة للطلبات المشروعة ومصالح الشعب المصرى.
وتابعت: لكن، تبين لنا فيما بعد أن هذا النظام لم يكن مستقراً بالتأكيد، وإن كان قليل من المراقبين هم الذين يمكنهم حقاً أن يتخيلوا حجم الضعف والهشاشة التى كان يعانى فعلياً منها. يوم 28 يونيو، انضم الرئيس أوباما لاجتماع للأمن القومى فى غرفة العمليات فى البيت الأبيض، وسألنا عن توصياتنا حول كيفية إدارة الأحداث فى مصر. وظل الجدل دائراً حول المائدة الطويلة، وغرقنا من جديد فى تساؤلات حيّرت صانعى السياسة الأمريكية لأجيال: «كيف يمكننا الموازنة بين مصالحنا الاستراتيجية وقيمنا الأساسية؟ هل يمكننا التأثير فى مجرى السياسات الداخلية لدولة أخرى وأن نرعى الديمقراطية فى بلد لم تزدهر فيه أبداً من قبل دون أن نعانى من آثار سلبية غير مقصودة؟ كيف نكون فعلاً على الجانب الصحيح من التاريخ؟ كانت تلك هى التساؤلات التى فجرها ما أطلق عليه فيما بعد «الربيع العربى».
وتضيف: مثل العديد من الشباب حول العالم، كان بعض مساعدى أوباما من الشباب فى البيت الأبيض، قد انجرفوا وراء موجة الدراما والمثالية التى فجرتها اللحظة، وهم يتابعون مشاهد من ميدان التحرير على شاشات التليفزيون، وشعروا بتوحدهم مع المطالب الديمقراطية وسهولة التواصل الاجتماعى والتكنولوجى الذى أظهره المتظاهرون الشباب فى مصر. والواقع أنه بالفعل شعر الكثير من الأمريكان بالتأثر لمشهد شعب طال قمعه، ينتفض ليطالب أخيراً بحقوقه، رافضاً القوة المفرطة التى استخدمتها ضده السلطات فى المقابل. أنا نفسى شعرت بذلك.. كانت لحظة مؤثرة.
«طنطاوى» كان ضابطاً ملتزماً بقومية بلاده شديد الإخلاص لعقيدة الجيش غير مستريح للمساعدات الأمريكية
وتواصل «كلينتون»: لكننى أيضاً، أنا ونائب الرئيس جو بايدن ووزير الدفاع روبرت جيتس ومستشار الأمن القومى توم دونيلون، كنا قلقين من أن يُنظَر إلينا على أننا نلقى بحليف عتيد لنا خارجاً، تاركين مصر وإسرائيل والأردن والمنطقة كلها لمستقبل خطر وغير معلوم.
وتتابع هيلارى: الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية يكون دائماً محفوفاً بالمخاطر، ففى إيران مثلا عام 1979، استولى المتطرفون الإسلاميون على الثورة الشعبية الواسعة التى قامت ضد حكم الشاه، وأقاموا دولة دينية عنيفة. لو تكرر هذا فى مصر، لشكل ذلك كارثة بالنسبة للشعب المصرى، وللمصالح الأمريكية والإسرائيلية معاً.
وتابعت: وعلى الرغم من حجم الاحتجاجات فى التحرير، فإنها ظلت فى النهاية مظاهرات بلا قائد، تحركها دعوات وسائل التواصل الاجتماعى والدعوات الشفهية، وليس حركة معارضة منظمة متماسكة. فالواقع أن سنوات طويلة من حكم الحزب الواحد فى مصر، تركت المتظاهرين غير مجهزين تجهيزاً جيداً لخوض انتخابات مفتوحة، أو بناء مؤسسات ديمقراطية راسخة.
وتقول هيلارى: على العكس منهم، كانت جماعة الإخوان قد وضعت نفسها فى المكان الصحيح لسد الفجوة التى قد تنتج عن سقوط النظام. كان مبارك قد حاول دفع الإخوان تحت الأرض، لكنهم ظلوا يملكون أتباعاً فى طول مصر وعرضها، إضافة إلى بناء تنظيمى محكم. قالت الجماعة إنها نبذت العنف، وبذلت بعض الجهد حتى تظهر فى صورة أكثر اعتدالاً، لكن كان من المستحيل التنبؤ بالطريقة التى يمكن أن تتصرف بها الجماعة إذا وصلت للحكم.
كل ذلك دفعنى مع نائب الرئيس ووزير الدفاع، إلى أن ننصح بتوخى الحذر.. قلت للرئيس إنه لو سقط مبارك، فأعتقد أن كل شىء يمكن أن يسير على ما يرام خلال 25 عاماً، لكننى أعتقد أن الفترة من اليوم وحتى نهاية هذه الأعوام، ستكون شديدة الاضطراب بالنسبة للشعب المصرى، وللمنطقة، ولنا.
وفى لقاء تليفزيونى مع برنامج «واجه الصحافة»، قلت إننا نأمل فى رؤية انتقال «سلمى ومنظم لنظام ديمقراطى». وتعمدت استخدام وصف انتقال «منظم» وليس «فورياً» للسلطة، على الرغم من أن البعض فى البيت الأبيض كانوا يريدون منى التلميح بضرورة رحيل مبارك حتى لو لم أطالب به صراحة.
وتواصل هيلارى: وعندما تحدثت مع وزير الخارجية المصرى وقتها «أحمد أبوالغيط»، طالبت الحكومة المصرية بإظهار ضبط النفس واستجابتها لمطالب الشعب. وأضفت: «سيكون من الصعب على الرئيس مبارك أن يثبت أنه قد استمع للشعب بعد ثلاثين عاماً، إلا إذا أجرى انتخابات حرة ونزيهة ولم يحاول التخطيط لتحديد من الذى سيخلفه». ورد «أبو الغيط»: «هذا أمر ليس مطلوباً غداً. ما علينا غداً هو تهدئة الشعب»، إلا أنه وافق على نقل مخاوفى.



هيلارىمع طنطاوى
وتتابع: فى 4 فبراير، تحدثت مجدداً مع وزير الخارجية «أحمد أبوالغيط» فى مناقشاتنا السابقة، كان يبدو واثقاً ومتفائلاً، لكنه الآن لم يعد قادراً على إخفاء توتره، بل وحتى يأسه. واشتكى من أن الولايات المتحدة تزيح مبارك من الطريق بلا هوادة دون النظر للعواقب، وحذرنى قائلاً: «انظروا إلى ما يقوله الإيرانيون الآن»، فى إشارة إلى أن الإيرانيين يتوقون لاستغلال أى سقوط أو انهيار محتمل لمصر. وكان خوف «أبوالغيط» من استيلاء الإسلاميين على السلطة واضحاً للغاية، وقال لى: «عندى حفيدتان، واحدة عمرها ست سنوات، والأخرى فى الثامنة من عمرها، أريد لكل واحدة منهما أن تكبر لتصبح مثل جدتها، ولتصبح مثلك. لا أن ترتدى النقاب، تلك هى معركة حياتى».
وتنازل مبارك أخيراً عن الحكم، مفوِّضاً سلطاته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى تعهد بإجراء انتخابات نزيهة وحرة، بينما انسحب مبارك إلى شرم الشيخ.
وتواصل: بعد شهر تقريباً، قمت بنفسى بزيارة ميدان التحرير.. كان طاقمى الأمنى شديد العصبية حول ما يمكن أن يحدث، لكن المصريين تجمعوا من حولى، برسالة فى أساسها تحمل الدفء والترحيب، كثيرون قالوا لى: «أهلا بك فى مصر الجديدة».. التقيت بعدها بعدد من الطلبة والنشطاء الذين لعبوا أدواراً أساسية فى المظاهرات. كنت متشوقة لأسمع خططهم للانتقال من المظاهرات إلى السياسة، وكيف يخططون للتأثير فى كتابة الدستور الجديد والمنافسة على مقاعد البرلمان فى الانتخابات المقبلة. لكننى وجدت أمامى مجموعة غير منظمة وغير مستعدة لخوض أى انتخابات ولا التأثير فى أى شىء. لم تكن لديهم أى خبرة فى السياسة ولا أى فهم لكيفية تنظيم الأحزاب والحملات الانتخابية، ولم يظهروا حتى أى اهتمام بذلك. وانشغلوا بدلاً من ذلك بالجدل فيما بينهم، وتوجيه اللوم للولايات المتحدة على خطايا متنوعة.. وكانوا رافضين للعملية الانتخابية، فسألتهم: «هل فكرتم فى أن تشكلوا تحالفاً سياسياً وأن تنضموا معاً للدفع بمرشحين وبرامج فى الانتخابات؟». فكان ردهم نظرة خالية من التعبير.
وفاة حفيد «مبارك» حطمت الرئيس المسن و«سوزان» قالت لى إن الصبى كان أفضل صديق له
وتضيف هيلارى: «هنا شعرت بالقلق من أن الحال ستنتهى بهؤلاء الشباب إلى تسليم البلاد للإخوان أو للجيش بطبيعة الحال، وهو ما حدث بالفعل بعدها. كان رأس الدولة ساعتها هو المشير «حسين طنطاوى» وزير الدفاع السابق فى عهد مبارك الذى تعهد بالإشراف على انتقال سلس للسلطة إلى حكومة مدنية منتخبة ديمقراطياً. وعندما التقيت به فى القاهرة، كان «طنطاوى» مجهداً إلى درجة أنه كان بالكاد يرفع رأسه، وكانت الهالات السوداء تحت عينيه تملأ وجهه كله. كان جندياً محترفاً تذكرنى هيئته ومظهره بالجنرال «أشفق برويز قايانى» فى باكستان. كلا الرجلين كان ضابطاً ملتزماً بقومية بلاده، شديد الإخلاص لعقيدة مؤسسة الجيش التى خرج منها. وكل منهما لم يكن مرتاحاً لاعتماده على المساعدات التى تقدمها الولايات المتحدة للجيش.


هيلارى فى زيارتها لميدان التحرير اثناء الثورة
وتابعت: وعندما تحدثت مع «طنطاوى» حول خططه لانتقال السلطة فى مصر، لاحظت أنه يختار كلماته بعناية ودقة. كان فى موقف صعب، يحاول فيه إنقاذ جيشه المحبوب من الدمار الذى خلفه نظام مبارك، وأن يحمى الشعب كما تعهد الجيش، وأن يقوم بالتصرف السليم مع قائده السابق الذى سانده فى مشواره المهنى. وفى النهاية، فإن «طنطاوى» حافظ على وعده بإجراء الانتخابات، وعندما خسر مرشحه المفضل «أحمد شفيق» الانتخابات بفارق ضئيل لصالح مرشح الإخوان محمد مرسى، حافظ «طنطاوى» على نتائج الانتخابات كما هى.

تعليقات