وكان للامة مجد (1) - محمد الفاتح

 واحد من أولئك الأبطال العظماء الذين صنعوا للأمة مجدًا وحجزوا لأنفسهم مكانًا فوق القمم نعيش، مع بطل حقيقي في زمن استأسدت فيه الضباع والبغاة.

نعيش مع بطل تحققت على يديه نبوءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأزال به الله -تبارك وتعالى- ملك قيصر الروم، إنه البطل الذي جعل الكنائس تدق أجراسها وتقرع نواقيسها ثلاثة أيام ابتهاجًا بوفاته، إنه البطل الذي أعلنت أوروبا يوم رحيله عيدًا قوميًا لها.

إنه محمد الثاني بن مراد الثاني، والذي تلقّب بمحمد أبي الخيرات.

ومحمد الفاتح بطل بين عظماء صنعهم الإسلام، تربى هو وشقيقه الأكبر علاء الدين منذ نعومة أظفارهما على حب الله ورسوله وعلى الفروسية والشجاعة والإقدام، حتى لقد شهدا وهما طفلان صغيران مع والدهما السلطان مراد الثاني معارك كثيرة هيأ لهما والدهما -رحمه الله- كل أسباب النبوغ والتفوق، وأجزل العطاء لعلماء الدين والدنيا كي يقوموا بتنشئتهما التنشئة السليمة القومية.

وكان محمد الثاني فتى عنيدًا جدًّا يصعب السيطرة عليه، فأشار بعضهم على والده السلطان مراد الثاني أن يستقدم عالميْ ذلك العصر الملا أحمد بن إسماعيل الكوراني والشيخ آق شمس الدين، وبالفعل أرسل إليهما فجاءا، ودخل الملا الكوراني بقضيب على محمد الثاني وقال له: طلب مني والدك أن أؤدبك إن عصيت أمري، فضحك محمد الثاني باستهزاء، فضربه الملا الكوراني ضربًا مبرحًا حتى أصبح الصبي يخافه خوفًا عظيمًا، ثم تحول الخوف بعد ذلك إلى حب شديد، حتى لقد كان يقول عنه: "إنه أبو حنيفة العصر".

وأما الشيخ آق شمس الدين فهو من أسرة عظيمة جدًّا، تمتد بنسبها إلى الصديق أبي بكر -رضي الله عنه-، واسمه محمد بن حمزة الدمشقي، وكان الشيخ آق شمس الدين من أروع علماء عصره، كما كان طبيبًا ماهرًا وله مؤلفات كثيرة في فنون الطب المختلفة، تأثر به محمد الثاني تأثرًا عظيمًا، وتعلق به تعلقًا شديدًا، وكان يقول لرجال دولته ووزرائه: "الحمد لله الذي أوجد رجلاً مثل الشيخ آق شمس الدين في مملكتي".

حرص الشيخ -رحمه الله- على تحفيظه القرآن الكريم ولم يكمل العاشرة من عمره، كما كان يصحبه إلى مضيق البوسفور ويشير إلى قلعة أناضول حصار يعني قلعة الأناضول، تلك القلعة العظيمة التي بناها السلطان بايزيد الثاني جد محمد الثاني على الضفة الآسيوية لمضيق البوسفور، كان يشير إليها ويقول له: بناها جدك لأجل حصار القسطنطينية، ثم يشير إلى ناحية الشرق حيث القسطنطينية ويقول له: دفن الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم -عليه السلام- إلى المدينة مهاجرًا.

ويروي له الأحاديث الكثيرة في فضائل فتح القسطنطينية تلك الأحاديث التي منها ما هو صحيح بالفعل ومنها ما هو ضعيف، كذلك حرص الشيخ -رحمه الله- على غرس معاني العزة الإسلامية في نفس الصبي، فكان أن قصّ عليه سيرة النبي الكريم وصحابته -رضوان الله عليهم أجمعين-، كما قرع مسامعه بقصص البطولات الإسلامية التي لا تحصى كثرة.

وهكذا كانت تربية محمد الثاني وشقيقه الأكبر علاء الدين، فنشآ يحفظان القرآن الكريم ويكتبان الحديث، وكان محمد الثاني متفوقًا على شقيقه علاء الدين، حتى لقد كان يجيد الحديث بسبع لغات حية إجادة تامة هي اللغة العربية والفارسية واللاتينية والإفريقية والصربية والإيطالية، فضلاً عن اللغة التركية بالطبع، كما كان شاعرًا أديبًا، وله ديوان شعري كامل باللغة التركية، وكان يوقع أشعاره باسم "عوني" على طريقة الشعر الفارسي.

فوق ذلك فلقد درس -رحمه الله- علوم الرياضيات والفلك والعلوم الإدارية والعسكرية، كما درس علوم الهندسة الميكانيكية، وكان نابهة نابغة لكأنما قد أعد إعدادًا لنيل المنقبة والشرف ولتحقيق ذلك الحلم الذي استعصى على إحدى عشرة محاولة إسلامية طيلة أكثر من ثمانية قرون متواصلة، ألا وهو فتح القسطنطينية.

شب الفتى وعاصر أحداثًا جسامًا ورأى كيف يتحد الصليبيون على اختلاف هويتهم ومذاهبهم ضد الإسلام والمسلمين، وحدث أن عقد والده مراد الثاني هدنة لمدة عشر سنوات مع الصليبيين عرفت بهدنة سيزجادن.

عاد السلطان مراد الثاني بعدها إلى أدرنة عاصمة الدولة العثمانية في ذلك الوقت والتي تقع إلى الغرب من القسطنطينية، عاد السلطان مراد إلى أدرنة ليستقبل بنبأ وفاة ابنه الأكبر علاء الدين، وهكذا مشيئة الله -تبارك وتعالى-، كان وقع الصدمة عليه عنيفًا، فاعتزل الناس وترك السلطة لمحمد الثاني ولما يكمل الرابعة عشرة من عمره، وبنى لنفسه صومعة في مدينة مانيسا بآسيا الصغرى وتفرغ للعبادة.

وأوعد بابا الفاتيكان إلى ملوك وأمراء أوروبا أن ينقضوا العهد والهدنة، فرؤوا في ذلك فرصة سانحة، وغرهم سن السلطان محمد الثاني، فاجتمعت أوروبا عن بكرة أبيها تحت إمرة ملك المجر "متياس كورفينوس" وغزت أرض الدولة العثمانية، فخرج السلطان مراد الثاني من عزلته وصومعته وقاد الجيش الإسلامي إلى أقصى جنوب يوغسلافيا، وكان -رحمه الله- يحمل عقد الهدنة التي نقضت فوق مقدمة سيفه كي يشهد الله -تبارك وتعالى- على غدر الصليبيين الفجرة.

حدث القتال ومالت كفة النصر إلى جانب الصليبيين نظرًا لكثرة عددهم ووفرة عتادهم، ولكن ثبّت الله السلطان مراد الثاني فحمل على ملك المجر وتمكن من قتله وقامت الفرقة الخاصة من الانكشارية باحتزاز رأسه ورقبته وغرستها في مقدمة رمح ورفعتها عاليًا، فلما رأى الصليبيون رأس قائدهم تقطر دمًا تملك منهم الرعب تملكًا عظيمًا، ومنح الله أكتافهم للمسلمين، فأحدثوا بهم هزيمة نكراء، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، حدث هذا في الثامن والعشرين من رجب عام 844هـ.

وعاد السلطان مراد الثاني إلى عزلته مرة ثانية، وبعد ثلاثة أشهر فقط ثار عدد من قواد الجيش على السلطان الصغير محمد الثاني، فخرج السلطان مراد الثاني من الصومعة مرة أخرى وأشغل الجيش بالقتال في اليونان، وقام -رحمه الله- بأمور الحكم إلى أن توفاه الله -تبارك وتعالى- في السادس عشر من محرم عام 855 من الهجرة ليتولى الأمر من بعده محمد الثاني وبصورة نهائية.

وليشرع -رحمه الله- منذ اللحظة الأولى في الأخذ بأسباب تحقيق ذلك الحلم الذي طالما داعب خياله، ألا وهو فتح القسطنطينية تلك المدينة التي يحيط بها البحر من الشمال والجنوب والشرق، ويحميها من الجانب الغربي المواجه للبر خندق يبلغ عرضه ستين قدمًا، يليه متراس -يعني سورًا صغيرًا-، يليه وعلى بعد أربعين قدمًا سور عظيم يبلغ ارتفاعه خمسة وعشرين قدمًا، يليه وعلى بعد ستين قدمًا سور عظيم جدًا يبلغ ارتفاعه أربعين قدمًا تنتشر عليه الأبراج العالية التي يبلغ ارتفاع الواحد منها ستين قدمًا، وتمتلئ برماة السهام النارية المشتعلة.

ولهذا السور ثلاثة أبواب هي باب العسكري في الشرق وباب أدرنة في الغرب وباب القديس في وسط السور تقريبًا، وهذا السور العظيم يلف المدينة بأكملها، إنها مدينة عظيمة التحصينات حقًا، استعصت على الفاتحين عبر القرون والزمان، قال بشأنها نابليون: "لو كان العالم دولة واحدة لكانت القسطنطينية هي أصلح عاصمة لها".

عقد السلطان محمد الثاني عزمه على فتح القسطنطينية ونيل المنقبة والشرف من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبنى على المضيق الأوربي لمضيق البوسفور قلعة عظيمة كانت مثلثة الشكل بلغ ارتفاعها اثنين وثمانين قدمًا، وعدد جنودها أربعمائة مقاتل، وتبعد ستمائة وستين مترًا فقط عن قلعة جده بايزيد في الناحية الآسيوية لمضيق البوسفور، مكنته هذه القلعة -والتي عرفت بـ"روملي حصار" يعني قلعة الروم وكانت تعرف قديمًا "بوغاز كسن" يعني قاطعة القناة- مكنته مع قلعة جده من التحكم في مضيق البوسفور، ثم أصدر -رحمه الله- أوامره بضغط الإنفاق الحكومي لصالح المجهود الحربي، وبدأت مصانع السلاح المنتشرة في أرجاء الدولة العثمانية تعمل ليل نهار لأجل توفير المعدات والأسلحة اللازمة لهذه المهمة الثقيلة.

ولقد كان العثمانيون -رحمهم الله- سادة صناعة السلاح في العالم، ما احتاجوا أبدًا إلى استيراده من الخارج، بدأت المصانع تعمل ليل نهار، واستقدم السلطان مهندسًا مجريًا يدعى "أوربان" كان ماهرًا في صناعة وتصميم المدافع، استقدمه وأجزل له العطاء ووفر له الرجال والإمكانات لأجل تصميم المدافع، بل لقد ساعده -رحمه الله- بنفسه، فلقد درس كما ذكرنا علوم الهندسة الميكانيكية.

وبدأ أوربان يعمل بهمة ونشاط، وكان من بين ما أنتج -عباد الله- ذلكم المدفع العملاق والذي عرف بالمدفع السلطاني كان يزن سبعمائة طن ويطلق قذيفة تزن ثلاثمائة كيلو جرام لمسافة كيلو مترين تقريبًا، وكان يحتاج إلى ساعتين لحشوه، ويحتاج إلى مائة ثور وسبعمائة رجل لجره وسحبه.

بدأ السلطان الاستعدادات في مدينة أدرنة واحتشد له مائتين وخمسين ألف مقاتل، فسار بهم إلى القسطنطينية تلك المدينة التي طالما أثارت الفتن والقلاقل على المسلمين منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وحتى عهد محمد الثاني، فلقد كانت القسطنطينية -عباد الله- مركزًا لانطلاق الدعم المعنوي والعسكري للصليبيين ضد الإسلام والمسلمين، صار السلطان بالجيش يحف بهم العلماء على رأسهم الشيخ آق شمس الدين، فوصل الجيش إلى مشارف القسطنطينية بعد شهرين من تحركه، وصل في يوم الخميس 26 من ربيع الأول عام 857 هـ.

وكان الدعم الصليبي قد وصل إلى المدينة من فينيسيا وجنوة وكريت وأرسلت اليونان سبع سفن محملة بالسلاح والرجال والخمور إلى القسطنطينية حتى يشدوا من أزر أهلها وحتى يقووا من عزيمتهم، وجاء القائد الجنوي الشهير "جوستنياني" بخمس خمس تحمل السلاح والرجال إلى القسطنطينية وعينه قسطنطين الحادي عشر إمبراطور القسطنطينية عينه قائدا للقوات المدافعة عن أسوار المدينة.

وصل الجيش الإسلامي إلى القسطنطينية ونصبت المدافع أمام الجهة الغربية والتي تواجه البراء، وأقيمت ميمنة الجيش الإسلامي بقيادة إسحاق باشا أمام باب العسكري، وأقيمت ميسرة الجيش الإسلامي بقيادة كراجا باشا أمام باب أدرنة، وأقيم وسط الجيش الإسلامي وقلبه والقوات الخاصة بقيادة السلطان محمد الثاني أمام باب القديس رومانس وقامت 120 سفينة إسلامية بقيادة "بالطا أوغلو سليمان" بمحاصرة المدينة من الناحية الجنوبية والتي تطل على بحر مرمرة ومن الناحية الشرقية والتي تطل على خليج البوسفور، ولم يتمكن الأسطول الإسلامي من محاصرة المدينة من الناحية الشمالية والتي تطل على خليج القرن الذهبي؛ لأن فم الخليج كان يغلق بسلسلة عظيمة جدًا أغلقها الصليبيون وكثفوا نيران مدفعيتهم نحو أي سفينة تقترب من فم الخليج.

نصبت المدافع  وكانت أربعة وستين مدفعًا تعمل بأربع عشرة بطارية للتشغيل، وبدأ دوي الانفجارات الهائلة، وكان المدفع السلطاني هو مفاجأة المفاجآت؛ لقد كان صوته يسمع على بُعد 25 كيلو مترًا وتحدث قذيفته حفرة في الأرض بعمق ستة أقدام تقريبًا خلع صوت دويه قلوب الصليبيين، وأخذوا يرممون على الفور ما تهدم من أجزاء السور المختلفة وأظهروا مقاومة عنيفة بقيادة الجنوي "جوستنياني" ومكنتهم أبراجهم العالية التي احتموا بها من اصطياد المسلمين المتواجدين بالعراء في سهولة ويسر، وبينما كان الدفاع والهجوم على أشده برًّا كانت المناوشات البحرية وتبادل إطلاق النار وقوارير النفط المشتعل تدور حامية بحرًا.

وأصدر السلطان محمد الثاني أوامره إلى قائد بحريته بالطا أوغلو بمحاولة اقتحام مضيق القرن الذهبي حتى يكتمل الحصار من الجهات الأربعة، ولأن رجال استخباراته قد أبلغوه أن السور المواجه للقرن الذهبي هو أضعف نقاط السور على الإطلاق، وبالفعل حاولت البحرية الإسلامية مرارًا أن تقتحم تلك السلسلة اللعينة دون جدوى.

وجاءت خمس سفن من قبل بابا الفاتيكان تحمل السلاح والرجال إلى القسطنطينية، وأصدر السلطان محمد الثاني أوامره بضرورة إغراق هذه السفن الخمسة فإن لم يتيسر إغلاقها فلا أقل مما تيسر من منعها من دخول المضيق، وبالفعل قامت معركة بحرية عظيمة بين هذه السفن الخمس تدعهما نيران المدفعية الصليبية، وبين قطع من الأسطول الإسلامي، وفجأة هبت ريح عظيمة كانت في صالح الصليبيين فنشرت السفن الخمسة أشرعتها وحملتها الرياح مسرعة إلى مضيق القرن الذهبي ففتحت السلسلة أمامها ثم أغلقت فور دخولها.

وأخذ الصليبيون من فوق الأبراج والأسوار يرفعون أصواتهم ويطلقون الصفير ابتهاجًا، وكان السلطان محمد الثاني راكبًا فرسه يراقب تلك المعركة من الشاطئ، ولقد بلغ به الانفعال حدًّا عظيمًا حتى لقد نزل بفرسه الماء وابتل فخده -رحمه الله- دون أن يشعر، فلقد بلغ الماء عنق الفرس.

ثم أصدر -رحمه الله- أوامره بإسناد قيادة الأسطول إلى حمزة باشا بعد أن أصيب بالطا باشا في عينيه، وكان أن جلس السلطان مع قادته يفكرون في كيفية اختراق تلك السلسلة اللعينة واقتحامها، واهتدى بعد تفكير عميق -رحمه الله- إلى حيلة لم يسبقه إليها أحد في التاريخ كله.

لقد قرر -رحمه الله- أن يسحب السفن عبر اليابسة وينزلها إلى مضيق القرن الذهبي متجاوزًا تلك السلسلة اللعينة عرض فكرته على القادة، فتعجبوا واندهشوا ولكنهم أبدوا حماسًا شديدًا، فأمرهم بتكثيف نيران المدفعية ليلاً ونهارًا برًا وبحرًا حتى ينشغل الصليبيون عن تلك الجبهة البرية الجديدة التي ستفتح، وبالفعل انطلقت القذائف برًا وبحرًا ليلاً ونهارًا كأنها المطر على الصليبيين، وبدأ سلاح المهندسين بقيادة مصلح الدين باشا بالعمل على تسوية الأرض قدر إمكانهم، وما كانت المهمة سهلة أبدًا، فالمنطقة منطقة تلال ووهاد وجبال وتمتد بطول خمسة كيلو مترات من الجبال تقريبًا، ولكن قبل المسلمون التحدي وقاموا بتسوية الجبال قدر إمكانهم، ثم أحضروا الكتل الخشبية العظمية وطلوها بالشحم، ثم جاءت الثيران ومعها الجنود يسحبون السفن عبر ذلك الطريق الخشبي الذي تم طلاؤه بذلك الشحم.

وفي صباح اليوم التالي ثغر الصليبيين أفواههم على مشهد تسمروا له جميعًا، فلقد رأوا سفينة تحمل العلم العثماني الذي يتوسطه الهلال، رأوها تنخر عباب اليابسة وتنزل إلى مضيق القرن الذهبي متجاوزة تلك السلسلة اللعينة، فنظروا في مياه القرن الذهبي فإذا بهم يجدون سبعين سفينة إسلامية وقد أنزلت بهذه الطريقة وبهذه الحيلة التي لم يفعلها أحد في التاريخ كله إلا السلطان محمد الثاني -رحمه الله-.

أصبح المسلمون يحاصرون المدينة من الجهات الأربع وتوالى القذف شديدًا سريعًا متلاحقًا وقاموا المسلمون بردم أجزاء من الخندق وأزالوا المتراس وهدموا أجزاءً من السور الأول لتتوالى القذائف إلى داخل المدينة ذاتها، وليهرع أهل القسطنطينية من الصليبيين إلى الكنائس ودور العبادة وحملوا تمثالاً يزعم أنه لمريم -عليها السلام-، وجعلوا يسألونها كشف الغم ودفع الكرب والهم، فسقط التمثال من أيديهم، وتحكم فتشاءموا تشاؤمًا عظيمًا.

جعلت القذائف تنطلق نحو المدينة كأنها المطر، وانفجر المدفع السلطاني نظرًا لكثافة وشدة النيران، انفجر وقتل كل كانوا حوله بمن فيهم مصممه أوربان.

وقام السلطان محمد الثاني بإصلاح المدفع بنفسه وزوده بقناة يوضع بها زيت الزيتون لأجل عمليات التبريد المستمرة، فعاد المدفع يعمل بكفاءة عالية، ثم أصدر -رحمه الله- أوامره إلى مصلح الدين باشا قائد سلاح المهندسين أن يحفروا أنفاقًا في باطن الأرض تخرج على الصليبيين من تحت أقدامهم، وشعر الصليبيون في وسط القسطنطينية بالأرض تهتز من تحت أقدامهم، فأدركوا أن المسلمين يحفرون أنفاقًا، وأنهم سيخرجون عليهم من تحت أرجلهم، فقاموا بحفر أنفاق معاكسة مضادة وملؤوها بالزيت المغلي والمواد الملتهبة، فاستشهد عدد من جند الإسلام ممن كانوا في مقدمة الأنفاق، وتراجع الباقون سريعًا، ولكن كان لهذه الحيل الكثيرة التي كان السلطان محمد الثاني -رحمه الله- يخرج بها على الصليبيين بين الحين والآخر أثرها العظيم في تدني معنوياتهم تدنيًا عظيمًا، فبعضهم ينبطح أرضًا يتسمع، يتشكك أن المسلمين يحفرون في مناطق أخرى، والبعض الآخر يحملق في الهواء لكأنما ظن أن المسلمين سيهبطون عليهم من الفضاء، والبعض الآخر يحملق في وجوه البعض لكأنما تشكك أن المسلمين قد دخلوا المدينة بالفعل ثم تنكروا في ثياب أهلها.

لقد جعلهم السلطان محمد الثاني -رحمه الله- يتلفتون في مشيتهم ويكلمون أنفسهم، ورجال استخباراته ينقلون إليه تلك الحالة المتدنية لمعنويات الصليبين، فلا يزيد على أن يبتسم، فما زال في الجعبة الكثير والكثير، فقد شكا له قادة الجند أن الصليبين المحتمين بالأبراج يوصلون سهامهم إلى المسلمين المتواجدين بالعراء في سهولة ويسر فقال: حسن.

وفي صباح اليوم الثاني فوجئ الصليبيون بقلعة عظيمة جدًا تتألف من ثلاثة طوابق ويبلغ ارتفاعها خمسين قدمًا، يقول المؤرخ الإيطالي بارباروا وكان معاصرًا لهذا الحديث: "لو اجتمع أهل القسطنطينية على بناء مثل هذه القلعة الجبارة لما بنوها في شهر كامل، فكيف بناها المسلمون في جزء من الليل!!".

نظر المدافعون عن الأسوار إلى تلك القلعة فرأوها تقترب من السور وقد غطت بالجنود المبللة بالماء حتى لا تتأثر بالنيران، فكان أن احتشدوا أمامها من فوق الأبراج وجعلوا يمطرونها بسهام من النفط المشتعل حتى لم يعد بها مكان إلا وقد استقر بها سهم مشتعل، فتأثرت بالنيران واحترقت وتهاوت على برجين للصليبيين فهدمتهما وقتل كل من كان فيهما من الصليبيين.

يقول المؤرخ التركي ضياء شاكر: "فهوت القلعة على برجين للصليبيين فنظر السلطان إليها وهي تتهاوى وقال وهو يبتسم: غدًا نصنع أربعًا غيرها إن شاء الله". فما أعلاها من همة صنعت للمسلمين مجدًا.
دام الحصار خمسين يومًا، وأرسل السلطان محمد الثاني برسالة إلى قسطنطين الحادي عشر إمبراطور القسطنطينية يدعوه فيها إلى تسليم المدينة، ويعده بأنه لن يتعرض للكنائس أو لأحد بسوء، فرفض الإمبراطور إلا أن يقاتل ويقاوم حتى النهاية، فقال السلطان محمد الثاني: حسنًا غدًا يكون لي في القسطنطينية عرش أو قبر.

ثم شاء الله -تبارك وتعالى- أن يسقط نيزك على كنيسة آيا صوفيا أعرق كنائس النصارى، فتشاءم القساوسة تشاؤمًا عظيمًا، وقالوا للإمبراطور: إن الله قد تخلى عنا وسوف تسقط المدينة، فجعل يتضرع إلى صورة يزعم أنها للمسيح -عليه السلام-، ثم ارتدى ثياب الحرب ونزل يدافع عن أسوار المدينة.

دام الحصار 54 يومًا، وفي ليلة الثلاثاء 20 من جمادى الأولى عام 857هـ والتي وافقت 29 من مايو عام 1453م انطلق السلطان في جوف الليل إلى خيمة شيخه آق شيخ الدين، فأخبره الحراس أن الشيخ -رحمه الله- قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ولو كان السلطان، فذهب السلطان غير بعيد ثم عاد إلى الخيمة من الخلف واستل خنجره وأحدث بالخيمة ثقبًا صغيرًا، ونظر فوجد الشيخ ساجدًا يبكي يدعو الله -تبارك وتعالى- أن يفتح على المسلمين القسطنطينية، فاستبشر السلطان استبشارًا عظيمًا، وأيقن أن النصر آتٍ بإذن الله، فعاد إلى المعسكر وأمر الجند أن يشعلوا نارًا عظيمة وأن يحتفلوا بالنصر مقدمًا، ونظر الصليبيون من فوق أبراجهم ومن فوق أسوارهم فظنوا أن النار قد شبت في معسكر المسلمين، ولكنهم فوجئوا بصوت أهازيج النصر وأناشيده، فكانوا أن أيقنوا وأدركوا أن المسلمين قد عقدوا العزم على الصدمة الكبرى غدًا.

وبالفعل وعقب صلاة الصبح وفي غبش الفجر أمر السلطان -رحمه الله- سلاح القوات الخاصة من الإنكشارية أن يعملوا جاهدين على رفع الأعلام الإسلامية العثمانية فوق سور مدينة القسطنطينية، وبالفعل انطلقت القوات الخاصة ومعها الحبال والسلالم التي تنتهي بالخطاطيف، وبعد قتال ضارٍ عنيف استشهد خلاله قائد الفرقة في مجموعة من رجاله تمكنت القوات الخاصة من رفع الأعلام الإسلامية فوق سور مدينة القسطنطينية التي يحيط بها من كل جوانبها.

ارتفعت الأعلام الإسلامية لترتفع معها معنويات المسلمين ولتتدنى معنويات الصليبين، ثم أمر السلطان -رحمه الله- أن ينقسم المهاجمون إلى ثلاث مجموعات تهاجم مجموعة تتبعها ثانية وثالثة؛ ما أرهق الصليبين إرهاقًا عظيمًا، ثم أمر بتكثيف نيران المدفع العملاق نحو باب رومانس، فكان أن تصدع الباب نظرًا لتوالي القذائف عليه.

في ذات الوقت  كانت ميسرة الجيش الإسلامي بقيادة كراجا باشا تنطلق نحو باب أدرنة تغطيها نيران المدفعية الإسلامية، وبعد قتال ومناوشات عنيفة تمكنت الميسرة من فتح باب أدرنة ليحدث القتال وجهًا لوجه ولأول مرة بين المسلمين والصليبيين، ويتمكن أحد جنود المسلمين من شطر قائد القوات المدافعة عن باب أدرنة نصفين لتنهار المقاومة تمامًا ولتندفع الميسرة إلى داخل المدينة.

في ذات الوقت كان السلطان والقوات الخاصة وقلب الجيش يحملون على باب رومانس بعد تصدعه نظرًا لتوالي القذائف عليه، وبعد قتال ضارٍ عنيف تمكن -رحمه الله- من اقتحام باب رومانس، ولم تأت صلاة ظهر ذلك اليوم الثلاثاء 20 من جمادى الأولى عام 857هـ - 29 من مايو عام 1453م لم تأت صلاة ظهر ذلك اليوم إلا وميمنة الجيش الإسلامي بقيادة إسحاق باشا تدخل المدينة من باب العسكري.

أيضًا دخل الجيش الإسلامي بأجمعه إلى المدينة وحدث القتال ضاريًا عنيفًا بين الفريقين، واستبسل المسلمون استبسالاً كبيرًا، واستقتل الصليبيين استقتالاً عظيمًا، وتمكن أحد جنود المسلمين من إصابة جستنيان بإصابات بالغة، فحمل إلى الناحية الشمالية للمدينة حيث استقل سفينة إلى جزيرة خيوس ولكنه مات قبل أن يصل إليها، وحل الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر مكانه، وألقى بخوذته ونزع شارته وجعل يقاتل المسلمين، فتمكن أحد الجند من قتله لتنهار بذلك معنويات الصليبيين، وليفروا يمنة ويسرة، ويمنح السلطان -رحمه الله- جنوده من منحة استباحة أموال المدينة ثلاثة أيام، ثم يسأل عن الشيخ آق شمس الدين فيخبر أنه لم يدخل المدينة بعد، فيخرج للبحث عنه بنفسه خارج المدينة، وفي مشهد يذيب الصخور إذا بالشيخ -رحمه الله- وقد دل على قبر أبي أيوب الأنصاري، إذا بالشيخ -رحمه الله- جالس بجوار قبر أبي أيوب -رضي الله عنه- وهو يبكي وينتحب، فيعتنقه السلطان وهو يبكي ويقبل رأسه ويده ثم يدخله المدينة، ثم يأمر -رحمه الله- بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد لأن المدينة قد فتحت قتالاً وعنوة ولم تفتح سلمًا وصلحًا.

وبالفعل يقوم سلاح المهندسين بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، أزيل معلم الشرك ليحل محله معلم التوحيد، وليخطب الشيخ آق شمس الدين أول خطبة جمعة بالمدينة وليطلق على السلطان محمد الثاني لقب محمد الفاتح.

ثم يصدر السلطان محمد الفاتح فرمانًا يقضي بتحويل العاصمة من أدرنة إلى القسطنطينية، ويغير اسمها من القسطنطينية إلى إسلامبول يعني مدينة الإسلام، ودرج الناس بعد ذلك على نطقها إسطنبول.

إنها إسطنبول الإسلامية -عباد الله- والتي فتحها السلطان العظيم محمد الفاتح حول عاصمة ملكه من أدرنة إلى القسطنطينية، ثم أخذ يضبط أمورها وينظم شؤونها، ثم انطلق يواصل الكفاح والجهاد، ففتح بلاد البوسنة والهرسك وبلاد الصرب وبلغاريا ورومانيا وألبانيا والجزر الجنوبية لليونان وشبه جزيرة القرم في أقصى جنوب الاتحاد السوفيتي السابق، وضرب الجزية على المجر شيكوسلوفكيا مائة ألف دوك ذهبي على كل واحد.

ثم جاءته رسالة من قِبل بابا الفاتيكان يدعوه فيها إلى النصرانية ويعده أنه سيكفر ذنوبه ويمنحه صك غفران يدخل بموجبه الجنة، فمزق الرسالة وهو يبتسم، ولم يكلف نفسه عناء الرد عليها، بل عقد العزم على فتح إيطاليا، وكأنما أراد -رحمه الله- أن يستأثر بالمنقبة والشرف من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فلقد بشر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أن القسطنطينية تفتح أولاً، ولقد فتحت بالفعل على يدي السلطان العظيم محمد الفاتح، وبشر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أيضًا أن رومية -وهي الفاتيكان الآن- سوف تفتح بعد ذلك، وستفتح إن شاء الله مصداق نبوءة الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، فأراد السلطان محمد الفاتح -وقد تحققت على يديه النبوءة الأولى- أن تتحقق على يديه أيضًا النبوءة الثانية، فأخذ يجهز جيشًا عظيمًا، وأخذ يرتب أموره ولكن شاء الله -عز وجل- أمرًا؛ فلقد مرض السلطان مرضًا عظيمًا أخذ يشتد عليه شيئًا فشيئًا، وأحس أنه الأجل المحتوم.

فأرسل إلى ابنه الأكبر ولي عهده بايزيد الثاني فقال يوصيه: "كن عادلاً رحيمًا، وابسط على الرعية حمايتك دون تمييز، واعمل على نشر الدين، ووسع بالجهاد رقعة الإسلام، فهذا واجبنا على الأرض، قدِّم الإسلام على كل شيء، ولا تستخدم إلا الصالحين، واجتنب الكبائر والبدع المفسدة، ولا تمتد يدك إلى بيت مال المسلمين، واضمن للفقراء قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين، وأوصيك بعلماء الأمة؛ أدم توقيرهم ورعايتهم، وانزل على رأيهم ومشورتهم، فإنهم لا يأمرون إلا بخير، واعلم أن مرضاة الله هي غايتنا، وأنا لا نحيا إلا بالإسلام وللإسلام".

ثم اشتد به المرض، وفي اليوم الرابع ليلة الخامس من ربيع الأول عام 886هـ فاضت روحه -رحمه الله- إلى بارئها، وسكن الجسد الذي لم يهدأ لحظة واحدة في سبيل الله، مات الفارس الذي أبى أن يعيش على هامش الحياة، وحجز لنفسه مكانًا فوق سوامق القمم بين عظماء ما صنعهم إلا الإسلام.

لو أراد حياة اللهو والترف لكان له ذلك، فهو سليل سلطان آل عثمان العظماء، حاط به منذ مولده عشرات الخدم والحشم، ولكنه أبى إلا حياة الجياد والجهاد، إلا حياة السلاح والرماح، لعل من حسن تدبير الله له أن قيض له -عز وجل- أبًا صالحًا تقيًا يهتم بأمر دينه ودنياه في موازنة عظيمة.

لعل من حسن تدبير الله –عز وجل- له أن هيأ له علماء أتقياء ورعين ربوه على سيرة السلف، رهبان الليل فرسان النهار، فقرر أن يلحق بركبهم وأن ينضم إلى قافلتهم.

لعل من حسن تدبير الله –عز وجل- له أنه لم يتلق تعليمًا علمانيًا يرسخ القومية والهزيمة النفسية في أعماقه تجاه أعداء أمته ودينه.

لعل من حسن تدبير الله له أنه قد ولد في عصر لم يتقدم الركب فيه فاسق، ولم تسلط فيه الأضواء الإعلامية على لاعب، ولم تكن الأسوة والقدوة مائعًا من المائعين، بل كان علي وحمزة وخالد والمثنى هم الأسوة وهم القدوة، فتشربت العزة نفسه، وتطلعت إلى المعالي همته، حتى أصبح محمدًا الفاتح والذي ولد في السادس والعشرين من رجب عام 833 من الهجرة، أي أنه قد فتح القسطنطينية -عباد الله- ولما يكمل الرابعة والعشرين من عمره.

محمد الفاتح قصة بطولة حقيقية من بين مئات القصص التي يزخر بها تاريخنا المجيد، والتي ما أحوجنا -عباد الله- إلى استخراجها من بين دفائن الكنوز؛ لنتعرف عليها أولاً، ولنرسخ في نفوس نشأنا وأبنائنا العزة والتمكين في زمن غربة الإسلام وندرة الرجال.

فهل تعلمون أن الأوروبيين يدرسون لأبنائهم ونشئهم أن قراصنة البحار اللصوص كانوا أبطالاً
 وهل تعلمون  أن الأمريكان يصورون عمليات السلب والنهب والقتل عمليات إبادة أصحاب الأرض الأصليين من الهنود الحمر على أنها كانت أمجاد وبطولات، إنهم يصنعون من اللصوص أبطالاً، ويجعلون للقتلة أمجادًا نظرًا لخلو رصيدهم التاريخي من أية بطولات أو أمجاد حقيقية، ونفوس النشء تهوى البطولات وتميل إلى اتخاذ الأبطال والأسوة والقدوة، بل إن البطولة هي أحد العناصر والأسس اللازمة لتكوين الشخصية السوية، فعيب كبير علينا إذًا أن لا نتعرف على تاريخنا المجيد وأبطاله، في حين تمتلئ الذاكرة بأسماء عشرات اللاعبين والمطربين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم أصلح شباب المسلمين خاصة والمسلمين عامة ...
 اللهم آمين 

محبتى

تعليقات